أشار جمال الغيطاني في حديثه عن نجيب محفوظ إلى أنه أصبح تجسيداً حياً للحكمة ، وأرى أن الحكمة هنا تقاوم جمود الماضي وتطرح في ( الأحلام – دار الشروق بمصر) تجربة مضمونية جديدة للوجود الإنساني ، فوعي هذا الأديب الكبير مازال يواكب الطفرات الثقافية ، ويؤكد حضوره بكتابة جديدة ، وليس هذا الأمر جديداً على نجيب محفوظ ، فقد واكب تاريخه الواقعية بأشكالها التاريخية والنقدية ثم الوجودية والعبث على الأخص .
إن ( أحلام محفوظ ) تكتب اللاوعي بلغة نصية لا واعية ، فاللاوعي هنا يتطور وفق شكله الوجودي فى النص والواقع على حد سواء . إنه يبدل أساسيات السرد مثل(المنظور) و ( الرؤية ) و ( الخطاب ) لينتج حكمة جديدة دون وعظ أو إحساس زائف بمركزية الذات . الراوي عنده – إذن –يقدم تجربته كظاهرة تحور تلقينا الحضاري و الثقافي للنص ، فأطياف الموتى وملوك مصر القديمة لها أثر مدرك فى الواقع دون أن تنفصل عن تجربة الحلم .
وبهذا الصدد يرى ( كارل يونج ) أن اللاوعي الجماعي يسعى لاستبدال العلاقات الواعية نفسها ، فأرواح موتي البدائيين تمثل تجليات للمركبات اللاواعية ، وتماثل في تكوينها استمرار صورة ( الأهل ) عقب موتهم فى ( لاوعي ) الطفل فى مجتمعنا المدني ، ويؤكد ( يونج ) أن ما يحرك ( اللاوعي ) ذهنية غريزية لاواعية تقترب من الصور الفنية ( راجع – يونغ / جدلية الأنا واللاوعي – ت / نبيل محسن / دار الحوار بسوريا سنة 1997 صـ 97 وما بعدها ) ،ولكن نصوص ( محفوظ ) تحور هذه الطاقة الغريزية ، وترتفع بها إلى مستوي الحكمة ، وهى هنا ممزوجة بالفن ، أعني فنية الوجود واللاوعي في تكوين واحد يناظر توجهات ( ما بعد الحداثة ) ، فالحلم فيها يتخلي عن مرجعياته فى اتجاه إنتاجي عند ( لاكان ) أو يصبح الواقع حلميا عند ( جان بودريلار ) وأستطيع أن أدلل من واقع نصوص الأحلام على ذلك
كالآتي :
فى الحلم (1) يؤول الراوي واقعه وذاته وفق إلحاح الجوع عليه ، ولكن التجسيد الإبداعي للموضوع أو ( المطعم ) يحول حركة الوعي إلى ظاهرة لاواعية ، من خلال تحولاته التكوينية فالخرابة الكبيرة تستبدل المطعم الفخم كأنها تمثل دوره من جديد ، أو تجسد وجهه الآخر ، أما صديق البطل ، وهو دليله إلى الغابة التي يحاول أن يبلغها السارد ، يراوده الاختفاء والعدم ، كأنه طيف يؤكد وجود آثار اللاوعي فى الواقع نفسه ، إذ إن هذا الواقع تفترضه عملية ( السرد ) ، إن غياب الصديق معناه غياب الوساطة والطرق التقليدية في الفهم ، كما يعني أن للراوي المادة الافتراضية أو الطيفية نفسها في الوجود والإدراك معاً . أو أنه يسائل ثوابت تجربته الإنسانية الماضية في حضور مستمر جديد حتى فيما يخص الغرائز .
هكذا يضيق الشارع بمدلوله فى الحلم ( 5 ) فيعيد تمثيل ذاته فى مسرحية جديدة بأن يصير سيركاً للألعاب ، يمتلئ بالمهرجين والحيوانات ، ثم بروز ( البلياتشو ) فى المشهد ، كأنه إدراك السارد للعالم ، مثلما ظهر عبث القرد من قبل فى ( ثرثرة فوق النيل ) فهل كان هذا الوجه إعلانا للذة التحول واللعب فى الواقع ؟ أم أنه يعارض انتظام حركة التاريخ ويفتتها إلى وقائع جزئية ؟ أم أنه يصنع الهامش وهو العلاقات والمضامين اللاواعية فى موقع التاريخ ؟
وفى الحلم ( 6 ) يستحضر الراوي صور الموتى ، وكأنها داخل الموقف والأداء السردي الحاضر ، أو أنها تكمل ما لم تقم به صورتها فى ( الدنيا ) من خلال مشهد شبيه بالأول ، فالشيخ محرم المتوفى ، وهو أستاذ للبطل – يكمل دروسه ويصحح له مشاهير المشايخ أخطاءه فى الحلم أو الجانب الهامشي من الإدراك إن الصورة هنا تقوم تراتبية الزمن والمنطق من داخلهما .
ويعاد اكتشاف التاريخ فى الحلم ( 9 ) بتأثيره الوجودي الآتي فى البطل وأصحابه ، فاستحضار أحدهم للملكة الفرعونية التى أغرقت من قتلوا زوجها يستعدي – فى النص – هطول المطر وانعدام الخلاص إلا بالطير إلى الفضاء ، وكأن واقع البطل له منطق التداعي النصي فى وجوده نفسه إلى درجته تحويل الصورة للأخرى التى تليها إلى مسرحة ناقصة لها ، فهل كان المطر سحرياً ؟ أم أنه لذة التدمير التى انفصلت عن بنيتها التاريخية ؟
وتصل هذه الحركة القصصية الى قمتها عند محفوظ فى الحلم ( 25 ) إذ يتجسد خيط من التراب فى سقف غرفة البطل ، كان قد سمع به فى قصة بوليسية حكاها أحد أصدقائه منذ قليل على المقهي . أهذا يعني أننا نحاكي ما هو سردي تمثيلي بالأساس ؟
أم أن الرواية هى قصة وعينا بالتاريخ والوجود ؟ أم أننا نخرج من أخر السرد والرواية لأنها أصبحت واقعاً نعيشه ؟
إنها التجربة المضمونية الجديدة لمحفوظ ، ومواكبته لما وصل إليه الوعي الإنساني بالتناقض وكسر النزعة الأحادية فى الفن والفكر على حد سواء . هذا الوعي يتطور فى الحلم ( 41 ) إلى تمثيل حركة الاختلاف عير انتشار الفئات الهامشية التى تقاوم شمولية الجنس البشري ، فالبطل فى سيرك يحوي ما يمثل حضارات وفئات لها خصوصية ، فبعضها يستدعي الأسطورة فى الواقع ، والآخر يجسد من يغني أو يسب أو يهتف وكأن اللحظة الراهنة مزيج من تجاور الصور فى سيرك كبير .
مع تحياتى